 
                
          
          
            الشبكية

التهاب الشبكية الصباغي (RP) هو ليس التهابًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما قد يوحي اسمه التاريخي. إنه مجموعة من الاضطرابات الوراثية التنكسية التي تصيب الشبكية – النسيج الحساس للضوء الموجود في الجزء الخلفي من العين. يتميز هذا المرض بتلف وتدهور تدريجي في الخلايا المستقبلة للضوء (الخلايا العصوية والمخروطية)، مما يؤدي إلى فقدان البصر بشكل متزايد مع مرور الوقت. كان الاعتقاد السائد في الماضي أن الحديث يدور عن التهاب، لكن الأبحاث في القرن العشرين كشفت أن السبب جذوره وراثية وجينية بحتة.
السبب الأساسي لالتهاب الشبكية الصباغي هو طفرات جينية موروثة. هذه الطفرات تعطل قدرة الشبكية على إنتاج البروتينات الضرورية لصحة ووظيفة الخلايا العصوية والمخروطية، مما يؤدي إلى موتها ببطء.
توجد عدة أنماط وراثية للمرض:
• الوراثة المتنحية (Autosomal Recessive): أكثر الأنماط شيوعًا. يظهر المرض إذا ورث الشخص نسختين من الجين المعيب (واحدة من كل والد). قد لا تظهر الأعراض على الوالدين الحاملين للجين.
• الوراثة السائدة (Autosomal Dominant): يظهر المرض إذا ورث الشخص نسخة واحدة معيبة من أحد الوالدين المصاب بالمرض.
• الوراثة المرتبطة بالكروموسوم X (X-Linked): ينتقل الجين المعيب عبر الكروموسوم X. يصيب هذا النمط الذكور بشكل أشد، بينما تكون الإناث حاملات للمرض بشكل رئيسي.
يوجد اليوم أكثر من 100 جين مختلف معروف بتسببه في التهاب الشبكية الصباغي عند حدوث طفرة فيها، وهو ما يفسر التباين الكبير في شدة وأعراض المرض بين المصابين.
تظهر أعراض التهاب الشبكية الصباغي عادة في مرحلة الطفولة أو المراهقة المبكرة، وتتفاقم ببطء على مدى decades (عقود). يتمثل التطور النموذجي للأعراض كالتالي:
1. العشى (Night Blindness): غالبًا ما يكون أول عرض يظهر. يواجه المريض صعوبة شديدة في الرؤية في حالات الإضاءة الخافتة أو في الليل، بسبب تلف الخلايا العصوية المسؤولة عن الرؤية الليلية أولاً.
2. فقدان الرؤية المحيطية (Loss of Peripheral Vision): يتطور المرض ليسبب فقدان الرؤية من الجانبين (الرؤية النفقية - Tunnel Vision)، حيث يبدو للمريض وكأنه ينظر من خلال أنبوب أو نفق.
3. فقدان الرؤية المركزية (Loss of Central Vision): في المراحل المتقدمة، قد تتأثر الخلايا المخروطية في مركز الشبكية (البقعة - Macula)، مما يؤدي إلى صعوبة في القراءة، تمييز الوجوه، ورؤية التفاصيل الدقيقة.
4. صعوبة في الرؤية تحت الإضاءة المتغيرة (مثل الخروج من مكان مضيء إلى مظلم).
5. بطء في تكيف الرؤية عند الانتقال بين مناطق مختلفة الإضاءة.
يعد التهاب الشبكية الصباغي من أكثر الأمراض الوراثية شيوعًا التي تؤدي إلى العمى مع التقدم في العمر، لكن درجة وشدة فقدان البصر تختلف بشكل كبير من شخص لآخر.
التشخيص: كيف يتم اكتشاف المرض؟
يتم تشخيص التهاب الشبكية الصباغي من قبل طبيب عيون متخصص، وقد يشمل الفحص:
• تنظير قاع العين (Ophthalmoscopy): حيث يرى الطبيب بقعًا صبغية (رواسب سوداء تشبه خلايا العظام) في شبكية العين، وهي العلامة المميزة التي أعطت المرض اسمه.
• تخطيط كهربية الشبكية (Electroretinogram - ERG): وهو الفحص الأهم لتأكيد التشخيص. يقيس الاستجابة الكهربائية للخلايا العصوية والمخروطية للضوء، حيث تكون منخفضة جدًا أو معدومة لدى المصابين.
• اختبار مجال الرؤية (Visual Field Test): لتقييم مدى فقدان الرؤية المحيطية.
• الفحص الجيني (Genetic Testing): لتحديد الطفرة الجينية المحددة المسببة للمرض، مما يساعد في فهم نمط الوراثة وتقديم الاستشارة الوراثية.
حتى الآن، لا يوجد علاج شافٍ تمامًا من التهاب الشبكية الصباغي. لكن الأبحاث تتقدم بسرعة، وتركز الخيارات الحالية على إبطاء التقدم، واستعادة بعض الوظيفة، ومساعدة المرضى على التعايش مع الحالة:
1. فيتامين أ بالاتيد (Vitamin A Palmitate): أظهرت بعض الدراسات أن الجرعات العالية تحت إشراف طبي قد تبطئ تقدم المرض، لكن لا ينصح بها للجميع بسبب الآثار الجانبية المحتملة.
2. الأجهزة المساعدة على الرؤية (Low Vision Aids): مثل النظارات المكبرة، المناظير الخاصة، والبرامج والتطبيقات التي تكبر النص والصورة.
3. النظارات الطبية الخاصة التي تعمل على تكبير مجال الرؤية للمصابين بالرؤية النفقية.
4. العلاج الجيني (Gene Therapy): حققت بعض العلاجات الجينية لطفرات محددة (مثل علاج voretigene neparvovec لطفرات جين RPE65) نجاحًا في استعادة جزء من الوظيفة البصرية.
5. الزراعة الشبكية (Retinal Implants): أجهزة إلكترونية (مثل غرسة Argus II) تحاول محاكاة وظيفة الشبكية وتحويل الصور إلى إشارات كهربائية يفسرها الدماغ.
6. الاستشارة الوراثية: مهمة للأفراد والعائلات لفهم خطر نقل المرض للأجيال القادمة.
التهاب الشبكية الصباغي هو تحدي بصري كبير، لكن الدعم والبحث الطبي في تطور مستمر. التشخيص المبكر والإدارة المتكاملة، إلى جانب الدعم النفسي والمجتمعي (مثل الانضمام لجمعيات المكفوفين)، أمر بالغ الأهمية للحفاظ على جودة حياة جيدة.
تبشر الأبحاث المستمرة في مجال العلاج الجيني، الخلايا الجذعية، والطباعة الحيوية للشبكية بأمل كبير في إيجاد علاجات أكثر فاعلية في المستقبل القريب.